فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (262):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الإنسان قد يزرع ما يكون لغيره بين أن هذا لهم بشرط فقال:- وقال الحرالي: ولما كان للخلافة وخصوصًا بالإنفاق موقع من النفس بوجوه مما ينقص التضعيف أو يبطله كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل مما ينقص نباته أو يستأصله نبه تعالى على ما يبطل؛ انتهى.
فقال سبحانه وتعالى: {الذين ينفقون} ورغبهم في إصلاحها ورهبهم من إفسادها بإضافتها إليهم فقال: {أموالهم} وحث على الإخلاص في قوله: {في سبيل الله} أي الذي له الأسماء الحسنى.
ولما كانت النفس مطبوعة على ذكر فضلها وكان من المستبعد جدًا تركها له نبه عليه بأداة البعد إعلامًا بعظيم فضله فقال: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا} بما يجاهدون به أنفسهم {منًا} قال الحرالي: وهو ذكره لمن أنفق عليه فيكون قطعًا لوصله بالإغضاء عنه لأن أصل معنى المنّ القطع {ولا أذى} وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك لما يتعالى عليه بإنفاقه- انتهى.
وكذا أن يقول لمن شاركه في فعل خير: لو لم أحضر ما تم، وتكرير {لا} تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر {لهم} ولم يقرنه بالفاء إعلامًا بأنه ابتداء عطاء من الله تفخيمًا لمقداره وتعظيمًا لشأنه حيث لم يجعله مسببًا عن إنفاقهم {أجرهم} أي الذي ذكره في التضعيف فأشعر ذلك أنه إن اقترن بما نهي عنه لم يكن لهم، ثم زادهم رغبة بقوله: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بتربيتهم القائم على ما يقبل من النفقات بالحفظ والتنمية حتى يصير في العظم إلى حد يفوت الوصف {ولا خوف عليهم} من هضيمة تلحقهم {ولا هم يحزنون} على فائت، لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم. اهـ.

.سبب النزول:

.قال القرطبي:

قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال عبد الرحمن بن سَمُرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العُسْرة فصبّها في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: «ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللَّهُمَّ لا تنس هذا اليومَ لعثمان».
وقال أبو سعيد الخدرِيّ: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يدعو لعثمان يقول: «يا ربّ عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه» فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى} الآية. اهـ.
وقيل نزلت في عليّ، وقيل: في عبد الرحمن بن عوف وعثمان، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدق برومة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين. اهـ.

.قال الفخر:

نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول: يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه، وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال بعض المفسرين:
إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه، وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الإنفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى.
قال القفال رحمه الله: وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبرًا أيضًا فيمن أنفق على نفسه، وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى، ولا يمن به على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يؤذي أحدًا من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تم هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد. اهـ.

.قال القرطبي:

لما تقدّم في الآية التي قبلُ ذِكرُ الإنفاق في سبيل الله على العموم بَيَّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه مَنّا ولا أذًى؛ لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدّقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابَه بإنفاقه على المنَفق عليه، ولا يرجو منه شيئًا ولا ينظر من أحواله في حالٍ سوى أن يراعي استحقاقه؛ قال الله تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].
ومتى أنفق ليريد من المنفَق عليه جزاء بوجهٍ من الوجوه فهذا لم يُرد وجهَ الله؛ فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى.
وكذلك من أنفق مضطرًا دَافع غَرْم إمّا لمانْةٍ للمنفَق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله.
وإنما يُقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيًا أتاه فقال:
يا عُمَر الخيرِ جُزَيت الجنّهْ ** أُكْسُ بُنَياتِّي وأمّهُنّه

وكُنْ لنا من الزمان جُنَّه ** أُقسم بالله لتفعلَنّهْ

قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟! قال:
إذًا أبا حفصٍ لأذهَبَنّه

قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟! قال:
تكون عن حالي لتُسْأَلنّهْ ** يوم تكون الأُعْطِيات هَنّهْ

ومَوْقِفُ المسئول بيْنَهُنّهْ ** إمّا إلى نارٍ وإمّا جَنّهْ

فبكى عمر حتى اخْضَلّت لحيته، ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لِشعْره! والله لا أملك غيره.
قال الماورديّ: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليًا من طلب جزاء وشُكر عُرْيًا عن امتنان ونشرٍ كان ذلك أشرف للباذل وأهْنَأَ للقابل.
فأما المعطِي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحبَ سُمْعة ورِياء، وفي هذين من الذمّ ما ينافِي السخاء.
وإن طلب الجزاء كان تاجرًا مُربِحًا لا يستحق حمدًا ولا مدحًا.
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لا تُعطِي عطية تلتمس بها أفضل منها.
وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وأن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأوّلين.
قال ابن عطية: وفي هذا القول نظر؛ لأن التحكُّم فيه بادٍ. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لهم أجرهم عند ربهم}.
عطف: ب {ثم}، التي تقتضي المهلة، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهرًا لا يحصل منه غالبًا المنّ والأذى، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى، لا يمنّ ولا يؤذي على الفور، فذلك دخلت: ثم، مراعاة للغالب.
وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق، والمقارنين له حكم المتأخرين.
وقال الزمخشري: ومعنى: ثم، إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرًا من الدخول فيه بقوله: {ثم استقاموا} انتهى كلامه.
وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى ل {ثم}، ولا أعلم له في ذلك سلفًا، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى. اهـ.

.قال الفخر:

المن في اللغة على وجوه:
أحدها: بمعنى الإنعام، يقال: قد من الله على فلان، إذا أنعم، أو لفلان على منّة، وأنشد ابن الأنباري:
فمنّي علينا بالسلام فإنما ** كلامك ياقوت ودر منظم

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة» يريد أكثر إنعامًا بماله، وأيضًا الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم.
والوجه الثاني: في التفسير المن النقص من الحق والبخس له، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع وغير ممنوع، ومنه سمي الموت: منونًا لأنه ينقص الأعمار، ويقطع الأعذار: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن ينقص النعمة، ويكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة، قال قائلهم:
زاد معروفك عندي عظما ** أنه عندي مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته ** وهو في العالم مشهور كثير

إذا عرفت هذا فنقول: المن هو إظهار الاصطناع إليهم، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذمومًا لوجوه الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني: إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث: أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه، وأن يعتقد أن لله عليه نعمًا عظيمة حيث وفقه لهذا العمل، وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه، ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير.
الرابع: وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع، ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد، فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيرًا بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولًا بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محرومًا عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر، وأما الأذى فقد اختلفوا فيه، منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصًا بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير: أنت أبدًا تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك، فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل.
فإن قيل: ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى} يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك. اهـ.